عبد الله حسين السوادي
لم يخطر في بال أحد ابناء بغداد قبل عشرين عاماً انه ربما يلقى حتفه في باحة مسجد على يد رجل فجر نفسه في جمع من المصلين و هو يقول، قبل ان يسحب أمان الحزام الناسف: الله أكبر!
و جدلاً لو خطر هذا على بال أحدهم يومها، لفقد عقله و جن جنونه، و هو يرغب ان يعرف شيئاً واحداً قبل ان يصاب بنوبة الجنون و هو:
كيف جمع الرجل بين مدلول الشعار الذي يعني الرحمة، كون الله هو عين الرحمة، و بين الدمار الذي الحقه في بيت من بيوت الله!! و حصد به ارواح رواد الصلاة؟
و نحمد الله أنه لم يكن هناك في ذلك الزمن الجميل ضحايا بسبب التفكير في هذا الأمر. ذلك انه لم يتخيل احدهم ان يحدث مثل هذا العهر الانساني، لكن مع الأسف الشديد لدينا اليوم آلاف الضحايا جراء هذا الفكر الشيطاني! الذي يرتدي جلباب الإسلام، و يمارس أعمال الدراكولا!
ايضاً تحدث في اليمن و تحديداً في مدينة صعده حرب لا تكاد ان تصمت قليلاً بناء على هدنة مؤقتة و هشة، حتى يعود الوضع للانفجار من جديد..
و هذه الحرب التي لا تكاد ان تلتقط انفاسها، تحدث بين ابناء مذهبين مسلمين من ابناء اليمن.. رغم ان صعدة كانت تضم بالإضافة إلى ابناء المذهبين المسلمين طائفة من اليهود.. و كان يسود الجميع مسلمين و يهود تعايش ودود عبر التاريخ تحت مظلة الانتماء إلى الوطن الواحد.
لا زلت اتذكر و انا صغير السن، انه كان بجوار قريتنا قرية مهجورة لليهود لم تزل آثارها حتى اليوم، كانت شاهدة على التعايش في ذلك الزمن القريب.
فلم اذكر يوماً أن كبار السن حدثونا عن عمليات انتحارية، حدثت بينهم و بين اليهود! و لا حتى مجرد مشاحنات طائفية..
ايضاً كان قضاة منطقتنا و القرى المجاورة لها من ابناء المذهب الزيدي، بينما سائر اهل البلد يتعبدون الله على مذهب الامام الشافعي، و مع ذلك لم نجد يوما ما اعتراض من أحد اطلاقاً.. بل كانوا يصلون خلف القاضي ، و القاضي كان يصلي خلف إمام المسجد و هو شافعي المذهب!
لم نسمع يومها عن اختلاف ما، أو تحفظ أو حتى مجرد تصنيف مذهبي أو تنفير فضلاً عن التكفير، و التصفيات المذهبية، أو عمليات التفجير القذرة! التي تستبيح أرواح الاطفال و الابرياء و سائر الناس!
دمشق عاصمة الخلافة الاسلامية و حاضرة المسلمين في كثير من مراحل التاريخ. مدينة الجمال و الياسمين الشامي، ومعها حلب مدينة العلم والأدب القدود و الطرب، و كذلك بقية المدن السورية، ترزح اليوم تحت نير البارود.
سوريا التي انجبت نزار قباني و غادة السمان و غيرهما ، ترعرع فيها الياسمين و الشعر و الابداع جنباً إلى جنب، و بلغ الجمال فيها الذروة.. تراق فيها دماء ابنائها في حرب تداخلت فيها الأمور، و لعبت فيها الاجندة الخارجية دورها لتحصد ارواح الأشقاء الذين شهدوا تعايشاً وسلاماً و وئاماً رائعاً عبر القرون.
بغض النظر عن التحيز مع طرف دون آخر، انا فقط اتألم للحال الذي آل اليه الوضع في ذلك الوطن الجميل الذي اصبح ساحة لتصفية الشعب السوري.
فقد كان الشعب السوري عون الشعوب المنكوبة عبر التاريخ، لكنه الآن شعب النكبة التي يصر كل طرف في الداخل و الخارج على مصادرة حياة الآخرين فيه.
لست هنا أوزع صكوكاً بالغفران لأحد، و اوجه التهم لآخر.
و إنما اقف ضد هذه الحروب التي تجسد الردة عن التعايش السلمي، و تعود بنا إلى عصر الجاهلية، و تهلك الحرث و النسل في العصر الذي ينبغي ان تلعب فيه الديموقراطية دورها، و يسود العدل و الوفاق الذي تعيشه اوروبا و امريكا و بعض هذه البلدان التي تتمتع بهذا النوع من الوئام اقرب ما تكون إلى "بالونة" قابلة للانفجار بسهولة نظراً لتنوع نسيج مواطنيها. من عرقيات و أديان مختلفة..
لكننا نعيش في العصر الذي يحكم امريكا فيه رجل من اصول افريقية، و قد كان امثاله يذبحون لمجرد اللون في زمن ما من تاريخ امريكا. فمتى نستفيق من سكر جاهليتنا الجديدة.
رغم ان في تراثنا الاسلامي صفحات مشرقة للألفة، و ضرب لنا تاريخنا أروع الامثلة في قبول الآخر ما يجعل هذه الدول التي أشرت اليها تعتبره نموذجاً راقياً مقارنة بما هم عليه الآن.
و بما انني بدأت بكائيتي هذه من العراق أود ان اختمها من العراق.
كنت اتحدث انا واحدى المثقفات العراقيات ممن تكفر بالجرائم التي تحدث الآن في وطنها الغالي، وحدثتني كيف كان جسر الائمة جسراً معبراً عن التواصل الحميم بين العراقيين، ذلك الجسر الذي سمي بهذا الاسم نظراً لوجود ضريح امام من اهل السنة على طرفه، و يقع على طرفه الآخر ضريح امام من ائمة الشيعة!
كان يزدحم في كل مناسبة لاحد الطرفين بالقادمين من الطرف الآخر لتقديم التهاني او العزاء، و لتقديم يد العون كما لو كان الجسر قصبة لنقل الأوكسجين بين رئتين في جسد واحد!
لكنه تحول إلى جسر للموت عندما كان في احدى المناسبات مكتظاً بأبناء احدى الطائفتين ليشهد على جريمة بشعة هزت كل القلوب المؤمنة بالله و الانسانية، عندما كانت الارواح تحصد في مشهد مهول ، و من استطاع الفرار من الموت أعلى الجسر، كان يلقي بنفسه حياً ليلقى مصيره بالغرق في النهر الذي اكتظ بالجثث يومها.
ما ترتب عليه فيما بعد تنفيذ عمليات لا تقل عنه قذارة في مساجد تابعة لأبناء الطائفة الأخرى، انتقاماً لما حدث على جسر الأئمة.
بينما المواد الأولية لهذه الاعمال الوحشية كانت من بذور التطرف الذي زرع نفسه في مفاصل هذا الوطن العظيم.
و هكذا اتسعت الهوة بين الطرفين التوأمين سابقاً الذين كان يربطهما جسر الحب والوئام ليصبح القتل و التفجير و استغلال النفوذ و القتل على الهوية هو السائد حتى الآن. ان الارهاب هو العدو الحقيقي ، الذي نشر فيروساته القاتلة في جسد الأمة!!
تلويحة أولى: ما يحدث اليوم من حرب في اليمن ضد تنظيم الأرهاب هي حرب مقدسة من وجهة نظري.
تلويحة أخرى: الحرب وحدها لا تكفي لاجتثاث الارهاب! لابد من عمليات استئصال فكرية لهذا السرطان القاتل.
تلويحة أخيرة:
متى ستعتبر الشعوب العربية مما يحدث قبل ان تلفظنا الحروب خارج سرب الأحياء و خارج نطاق الحياة!!