عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
*ثقافتنا الوطنية تغرق في هزالها، وانتماؤنا الوطني يعاني من الكساح المزمن، لأن ثقافة الأنظمة العربية المتعاقبة على وعينا الفردي والجمعي نجحت ولا تزال تنجح في اختزال الوطن إلى شخص، واختصار الشعب إلى حزب، الرئيس هو الوطن، والوطن هو الرئيس، الحزب هو الشعب، والشعب هو الحزب أو الحاشية، تعلق صور الرئيس خلف كل مكتب حكومي دلالة على الولاء والطاعة، ويعلق العلم الوطني على أعمدة الإنارة وأسطح المباني مرة أو مرتين في السنة لتعبث به عوامل التعرية، فيتحول إلى خرق مهلهلة الخيوط شاحبة الألوان.
*وهكذا تتجذر ثقافة الفرد الأوحد، الوزارة مربوطة بأهداب الوزير، والمؤسسة أو المصلحة مطوية طي السجل للكتب تحت باقة المسؤول الأول، لأن ثقافتنا الاجتماعية ضاربة في تاريخية الماضي، غارقة في أتون الأبوية وسطوة السلطوية، خاضعة ذليلة أمام هالة القدسية، متوجسة متضرعة وخانعة في حضرة القوة المستمدة من الحق التاريخي المخول باسم السماء قديماًُ وحديثاً، وباسم الشعب وقوة الجبروت في تاريخنا العربي المعاصر، زائداً تفويض معتمد من دكتاتورية شرقية أو ديمقراطية غربية.
*نحن مشدودون بقمة ثقافتنا الماضية إليها لاستنساخها من جديد، وتعليبها بأحجام مختلفة لنستهلك منها حاجتنا ونصدر الفائض منها للمستقبل، نحن لم نتعود بعد على جوهر الديمقراطية، ولا على مؤسسية القرار وعلنيته، نحن دائماً وأبداً مجهزون بتلك الثقافة التي تمنحنا القوة السحرية ليصبح وزير الإرشاد وزيراً للنقل، وحسب طقس الثقافة ذاتها قد يصبح لاحقاً وزيراً لشؤون القبائل أو زيراً للتربية، في حين ينتظر الوكيل 20 عاماً دون أن يصبح نائباً، وينتظر النائب مثلها من السنوات دون أن يتشرف بمعانقة عرش الوزارة، لكن يمكن أن يقفز ابن الحق التاريخي من الحضانة إلى مكتب المدير العام ليلتقط أنفاسه في الطريق إلى منصب الوزير، وربما كان مؤهله الأكبر أهمية هو هذا الحق التاريخي السلالي أو القبلي أو النضالي أو الحزبي أو المناطقي الذي تتقن ثقافتنا الراهنة عملية التحقق من صبغات جيناته الوراثية بشكل أوتوماتيكي، مانحة إياه كل مقومات الانتماء الوطني، فبالله ربنا وربكم هل هذه هي الثقافة الوطنية التي نريد؟؟!!
*الثقافة الوطنية أن يكون الوطن من أجل المواطنين، أن تكون السلطة سلطة الحكم المؤسسي، نحن غارقون في التخلف لأننا لا نريد أن نعترف بأننا متخلفون، وأن تخلفنا هو الذي يأخذ البلاد بنواصيها وأقدامها إلى مزيد من ثقافة التخلف والفوضى والعشوائية واحدة من صورها التراجيدية عن مرضى الكلى من ثلاث أو أربع محافظات وهم يتسابقون على أربعين سريراً في الحديدة، منهم من يقضي نحبه ومنهم من ينتظر، دون أن تبدل ثقافتنا الراهنة أي تبديل في زاوية الرؤية أو دقة العرض، بل تسارع إلى تنويع المشاهد بين التراجيدي والكوميدي والتراجيكوميدي، فإذا بنا مواجهة مع وكيل إحدى المحافظات وهو يستقبل شركة ألمانية لمكافحة ليس الفقر ولكن الغربان!، تشاءم من نعيقها الليلي، فتراءى له البين القادم عن كرسي الوكالة، كان يكفيه ويكفينا معه وبدون شركات أجنبية أن يأخذ بنصيحة جده العربي القديم حين قال:
إذا ما غراب البين صاح فقل له *** ترفق رماك الله يا طير بالبعد
ترفق أيها الوكيل وخذ بالنصيحة وارصد مبلغ المكافحة للعاطلين عن العمل وسيكفونك أمر الغربان ويدعون لك بالأمان، فهذا الديدن لثقافة الفوضى يمكن أن يفاجئنا غداً أو بعد غد في محافظات أخرى بابتكار حملات تكافح الحمائم والعصافير لإفساح المجال الجوي لبعوض الملاريا وحمى التيفوئيد، واعتبار ذلك جزءاً من استحقاق هذه المحافظة الذهبية أو تلك الفضية، أو غيرهما من محافظات النحاس والصفيح والخردة.
*إن للفوضى ملامح لا تحصى، كما للتخلف تجليات لا تعد، وصور لا تحد، واحدة منها تقول أننا نستقبل سنوياً آلافاً من أبخل سياح العالم، ننفق على أمنهم ومرافقتهم وحسن ضيافتهم ضعف ما ينفقونه على متطلبات سياحتهم ولوازم استجمامهم، ثم يعودون إلى ديارهم بمجسمات لدار الحجر و(جنابي) مذهبة، كلها مصنوعة في الصين العظيم، فبورك فيها من سياحة وأكرم بها من ضيافة!!.
*الثقافة الوطنية ليست شعارات تقال في احتفالاتنا السنوية التي نبرع في تحويلها من احتفالات بعيد الوطن إلى احتفالات بعيد الجلوس، الثقافة الوطنية لا تقاس بعدد صور الرئيس، ولا بعدد أقسام الشرطة، ولا بعدد الأناشيد التي تبثها محطات الإذاعة، الثقافة الوطنية سلوك، ممارسة، إنجاز، الثقافة الوطنية لا تتحقق بعدد طلاب المدارس، ولكن بنوعية التعليم الذي يتلقونه، الثقافة الوطنية لا تتحقق بأنصاف الأميين، ولا بفصل دراسي يختلج بين جدرانه مائة طالب أو طالبة، قماش زيهم المدرسي من إندونيسيا أو تايوان، وأقلامهم من الهند، ومبنى مدرستهم أنشئ بقرض ربوي أو هبة ممنونة.
*الثقافة الوطنية تنشأ حين يشعر الإنسان بالوطن، بالعدل، بالأمان، بالمساواة، بالعزة، حين يشعر أن الوطن من أجله، والرئيس من أجله، ونشرة الأخبار من أجله، وافتتاحيات الصحف الرسمية تتحدث بلسان حاله ولواعج همه، الوطنية تتحقق كثقافة حين ينتصر القانون، حين يحاسب الفاسدون، حيث تدار الدولة بمنطق الدولة وليس ببدائية القبيلة، حين ننفض رماد المضارب عن عقولنا، ونقوض ثقافة التدافع بالمناكب على باب الخليفة المعاصر.
*الثقافة الوطنية إذا غابت فهي أكبر من أن يخلقها الدكتور المفلحي، وإن وجدت فهي أصعب من أن يزعزع بنيانها (شنفرة الحراك)، الثقافة الوطنية تخلقها الأفعال المنتصرة للإنسان وكرامته وحريته، إنها الثقافة الغائبة من أجندة الحزب المفترض بأنه الحاكم، وما الحال لدى أحزاب (النقار) المعارض بأحسن، فهي الوجه الآخر للشيء نفسه، تلك الفوضى، تلك المضارب، أوعية بأكثر من لون تنضح بالرماد نفسه، رقعة شطرنج واحدة يتحرك عليها بيدق واحد، وطن واحد، تخلف واحد، حزن واحد، وجراح كثيرة.