أول أحزاب الله: اليمن وفكرة الفقيه المحتسب
ظل حزب الله، الذي أسسه القاضي والشَّاعر محمد محمود الزُّبيري، عِقب ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962 مخفياً أو محصوراً باليمن شمالاً، فعنما يجري الحديث عن حزب الله يتبادر إلى الذِّهن مباشرة حزب الله اللبناني، وبنسخته الشيعية والمتخذ ولاية الفقيه الإيرانية نهجاً له، بينما هناك حزب الله بنسخته السُّنية ـ الزيدية القريبة مِن الإخوان المسلمين تأسس العام 1963، وكان هدفه قيام دولة اليمن الإسلامية، واستمر فاعلاً حتى اغتيال مؤسسه وزعيمه القاضي الزُّبيري، وهو في طريقه إلى مؤتمر معارض للجمهوري في أبريل (نيسان 1965).
كتاب "محمد الزُّبيري ومشروع حزب الله" الصادر عن دار مدبولي 2004 بالقاهرة لمؤلفه الباحث اليمني والأكاديمي في جامعة صنعاء عبد العزيز قائد المسعودي، يحكي قصة هذا الحزب ونشاطه، بعد أن ظهرت أخباره ضمن أخبار الصراع بين الجمهوريين والملكيين باليمن، وما أسفر عن دخول القوات المصرية إلى صناء وإسنادها لحكم عبدالله السَّلال (1962 -1967).
قبل هذا لا بد مِن التذكير بسيرة مؤسس هذا الحزب، وحسب الكتاب الذي بين أيدينا أن محمد بن محمود بن محمد بن أحمد الزُّبيري ولد العام 1919 بصنعاء العاصمة، ولد ونشأ في أُسرة ميسورة إلى حد ما، فمعظم أفرادها كانوا قضاة ومفتين وتجاراً، فجده القاضي أحمد شغل مناصب قضائية في الدولة القاسمية الزَّيدية. درس الزُّبيري في الكُتاب، ثم ألتحق بالمدرسة العلمية بصنعاء، وهي الخاصة بتعليم أولاد الأسر الميسورة، وحينها ظهرت عليه ملامح الموهبة الشعرية، حتى صار من الشعراء المعروفين في ما بعد.
كان اليمنيون يرددون بيته، وقيل إنه قاله في يوم الثورة (26 سبتمبر 1962):
يومٌ من الدَّهرِ لم تصنع أشعته
شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا
كنا نسمع هذا البيت وهو يُردد في الطوابير الصباحية في المدارس الثانوية بعدن، وربَّما اشتهر الزَّبيري بين الشَّباب اليمني الجنوبي ببيته هذا، لكثرة ترديده على الطلبة.
عمل في ديوان أمير مدينة تعز علي الوزير، ودَرَّس هناك اللغة العربية في المدارس الأحمدية، وبعدها، في العام 1938، ألتحق للدراسة في دار العلوم بالقاهرة مبعوثاً على نفقة أمير تعز. عاش الزبيري فترة حرجة من تاريخ اليمن، وهي فترة الدَّولة المتوكلية (1918 -1962)، التي كثرت فيها الصِّراعات والثورات، ومنها كانت بمشاركة محمد الزَّبيري نفسه، كحركة 1948، وقد عين وزيراً للمعارف مدة أيام انتصار الحركة، التي للإخوان المسلمين دور فيها، وإثر ثورة 1962 تولى المنصب نفسه، مع نيابة رئاسة الوزراء، وعضوية مجلس الرَّئاسة.
خلال دراسته بالقاهرة تأثر بأجوائها السياسية، ومال إلى الإخوان المسلمين، على الرغم أنه زيدي المذهب، وبهذا التأثير أنشأ حزب الله باليمن. قبل حزب الله كان للزُّبيري نشاط سياسي، أحد قياديي "الجمعية اليمانية الكبرى"(1944-1948)، ورئيس تنظيم الاتحاد اليمني (1953-1962).
وصاية الفقيه المحتسب
إذا كان "حزب" الله اللبناني يعتقد بولاية الفقيه المطلقة، حسب النموذج الإيراني، فـ"حزب الله" اليمن سبقه إلى اتخاذ وصاية الفقيه المحتسب فكرة وعقيدة. لأن زيدية اليمن، الذي ينتمي إليها مؤسس حزب الله محمد محمود الزُّبيري(اغتيل 1962)، لا تؤمن بالعصمة للأئمة، وبالتالي ليس مِن عقيدتها النيابة عن الإمام، مثلما مطروح في النموذج الإيراني الولي الفقيه الجامع للشرائط. لكن هناك إيمان لبعض الزيدية بالفقيه المحتسب في زمن عدم وجود الإمام الفاضل والمفضول.
يقول المؤلف "إن مصطلح المحتسب أو الإمام مطلح فقهي، أكتسب في تاريخ اليمن الإسلامي والحديث صبغة دينية، ومكانة اجتماعية مرموقة، شأنه في ذلك شأن مصطلح شيخ الإسلام. فالمحتسب اصطلاح فقهي سياسي استخدمه العلماء كلٌّ حسب علمه واختصاصه. وفي تحول وظيفة المحتسب إلى داعٍ وإمام، ثم في تحول وظيفة الحسبة والإمام إلى منصب ديني وسياسي كما هو الحال عند زيدية اليمن الهادوية، أفضى ذلك إلى ظهور وصاية الفقيه المحتسب"( ص 269).
يغلب على الظَّن أن إيمان الزَّبيري واتخاذه وصاية الفقيه المحتسب كعقيدة لحزب الله ليس بمعزل عن ممارسته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السابقة، مرحلة أمتدت لعام (1941-1942)، وهي نزعة معتزلية وسلفية في الوقت نفسه، حسب ما عبر عنها مؤلف الكتاب، فالزَّيدية تعتقد بالأُصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد. أما الاحتساب عند السلفية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حزب الله
كان الزُّبيري رافضاً للحكم الإمامي، وحسب مؤلف الكتاب، هو أول مَن استخدم عبارة "الجمهورية" في خطاباته السياسية، وفي منشورات الاتحاد اليمني، قبل ثورة سبتمبر 1962 بأعوام طويلة، كما ركز المؤلف على قحطانية الزَّبيري، التي لا تتيح له أن يأخذ دور الإمام، لأن الإمامة ارتبط بآل هاشم، أو العلويين من آل عدنان، وحسب التقليد الزيدي لا يكون الإمام إلا فاطمياً، ذلك الحكم الذي خرج نفسه عن التقليد الزيدي في عدم قبول الوراثة في الحكم، ذلك لما ورث الإمام يحيى ولده أحمد، فالإمام الذي يخرج بسيفه ويتوفر فيه العدل مع شرط فاطميته.
لكنه بعد انتصار الثورة وقيام الجمهورية، وبوجود القوات المصرية كسلطة فاعلة داخل صنعاء، وجدها الزُّبيري لم تلب طموحه السياسي، فمال إلى معارضتها، فبعد مرور العام على الثورة، أي 1963، انشقت قيادات يمنية على الثورة، أو بالأحرى على حكم عبد الله السَّلال، الذي صار تحت الهيمنة المصرية، خلال الحرب بين الجمهوريين بدعم مصري بوجود قوات على الأرض، والملكيين بدعم سعودي، فكانت المواجهة صريحة بين الجمهورية العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية آنذاك بسبب التدخل باليمن.
اجتمعت تلك القيادات وابدت رغبتها في تشكيل معارضة ضد حكم عبد الله السَّلال، عُرف بحزب الله، في ما بعد. وحسب مؤلف الكتاب، إن الشعار الظاهر هو إحلال السلام بإيقاف الحرب الطاحنة وتحقيق المصالحة الوطنية بين أبناء اليمن، أما الشعار الخفي فهو الدعوة إلى قيام دولة اليمن الإسلامية، وتطبيق الشريعة تطبيقاً علمياً، وبطبيعة الحال هذا لا يتحقق إلا بوصاية الفقيه المحتسب.
معلوم أن تسمية حزب الله مقتبسة من لفظ قرآنية جاء في آيتين، هما: "أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"(المجادلة: 22)، و"وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"(المائدة: 56). وبالمقابل هناك لفظ تشير إلى حزب الشَّيطان: "أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ" (المجادلة: 19). بمعنى أن احتكار التسمية تجعل الآخرين بصف الحزب الآخر، وأن حزب الله لا يتعدد، وهذا ما فكر فيه مؤسس حزب الله محمد الزُّبيري، عندما قال لجماعته في الحزب: "سنفجر لهم قنبلة عظيمة ستكون شديدة الوقع عليهم، سنعلن إنشاء حزب نسمِّيه حزب الله، وهم سيقولون ونحن مِن حزب الله"( ص 118). فلا خيار عند الآخرين أما أن يكونوا حزب الله فهم مع الزُّبيري، وإلا دفع بهم صف الحزب الآخر، أي حزب الشَّيطان.
قال أحد أعضاء حزب الله اليمني، أو أحد مؤسسيه في نشاط حزبه: "وبدأنا في ظل حزب الله نعمل، كتبنا منشورات وأرسلناها واسلنا القبائل وخاصة زعماءها، ونزل التعريف بحزب الله، وتم التخطيط لعقد مؤتمر صغير في حرف سفيان، وعَرفنا بكنوز الأخلاق اليمنية"(ص 118). لقد اتخذت زعامة حزب الله من المناطق الشمالية، حدود بكيل وحاشد، مجالاً لنشاطها، بينما اتخذ زعامة اتحاد القوى الشعبية من المناطق الشرقية، حدود مذحج، مكاناً لنشاطها. بينما كان الشعار واحداً وهو قيام دولة اليمن الإسلامية، وكلاهما أعلانا تنصلهما عن الطرفين المتحاربين: الجمهوريين والملكيين على حد سواء.
لمزيد من التعريف بحزب الله ينقل المؤلف عن منشوره الثاني (مارس 1964)، والصادر في منطقة جبل برط الآتي(صفحة 266):
إن حزب الله أمة المؤمنين أفزعتهم نكبة اليمن (الحرب بين الجمهوريين والملكيين ووجود القوات المصرية) وتعاهدوا على العمل بتعاليم الله. وهو حزب ليس فيه صوفية ولا رهبانية ولا شعوذة ولا خرافة، بل هو ثورة إسلامية وسيرة محمدية، وحرك تقدمية تعتمد على جماهير الشَّعب. حزب الله يعمل على إقامة دولة القرآن وتحويل العقيدة إلى عدل وإحسان ورقي وعُمران.
أما الزُّبيري فيعلل تأسيس حزب الله في تلك الأهداف، وأنه يعمل على تحقيق: حكم إسلامي جمهوري شوروي لا إمامي ولا عسكري. تحقيق حكم الله لا حكم المدفع والصاروخ ولا الدبابة، ويقصد نبذه للحكم الجمهوري العسكري(صفحة 267).
يتضمن كتاب "محمد الزَّبيري ومشروع حزب الله 1941 – 1965)، أكثر من أربعمائة صفحة، ويعني في التاريخ المذكور نشاط الزُّبيري السياسي، لا وجود حزب الله، فالأخير دام من 1963 وحتى اغتيال مؤسسه 1965، لكنها كانت فترة حرجة في المواجهة مع الحكم الجمهوري العسكري والقوات المصرية في الوقت نفسه، ومِن جهة أخرى الملكيين، فكان الإمام بدر موجوداً، ويحاول استرجاع عرشه، وهو لم يحكم سوى أيام بين موت أخيه أحمد وقيام ثورة سبتمبر 1962.
احتوى الكتاب على ثمانية فصول وتمهيد وجداول ملاحق يفيد أولها في توثيق: تشكيلة مجلس قيادة الثَّورة بعد يوم من اندلاعها، وكان على رأسها العميد عبد السَّلال، ولو وافق العميد حمود الجائفي على ترأسه للضباط العازمين على الثَّورة لما كان السلال رئيساً، والأمر له علاقة بالرُّتبة العسكرية، في أغلب الثَّورات التي قام بها الجيش، كمصر 1952 والعراق 1958.
أما فصول الكتاب فهي: حوى الفصل التمهيدي مشروع البحث، والزُّبيري وحزب الله، وتعريف المصطلحات، وكان الفصل الأول خاصاً بالحياة السياسية في العصر الذي عاشه الزُّبيري، واختص الفصل الثاني بالمنطلقات النظرية في فكر الزُّبيري، وكان الفصل الرَّابع مكمل للفصل الثاني، وقد جمع فيه المؤلف الآراء حول فكر الزُّبيري، وكان المفروض أن يأخذ هذا الفصل التسلسل الثالث بين الفصول. أما الفصل الثَّالث فحوى قصة ولادة حزب الله، والمؤتمرات التي شارك فيها من مؤتمر عُمران 1963 إلى مؤتمر خمر للسلام 1965 وهو الذي تزامن مع اغتيال الزُّبيري.
في بقية الفصول: الخامس والسادس والسابع والثامن بحث المؤلف الموضوعات الآتية: جوهر الخلاف بين السلطة والمعارضة، ومشروع دولة اليمن الإسلامية، ووصاية الفقيه المحتسب، وعنف السلطة ومحنة المعارضة، وقراءة في القصيدة "الكارثة"، ثم قصة اغتيال الزبيري وتراثه.
وهي الأخرى قصة مثيرة للباحثين، فمؤلف الكتاب لم يتهم طرفاً دون آخر بل حمل أقطاب الصراع كافة، ومَن كان متضرراً مِن مؤتمر "خمر للسلام" (أبريل 1965) هو المسؤول عن قتله، مع أن ضيق الزبيري مِن الوجود المصري وعمله المعلن ضد جمهورية عبد الله السلال المدعومة بقوة مِن قِبل المصريين، يُلمح أنه انتهى بفعل مصري.
الكتاب بمجمله تاريخ لمرحلة من مراحل اليمن، تبدأ بحياة الزُّبيري الحافلة في الأدب والسياسة، فلفعله السياسي المعارض هناك مَن يسميه بأبي الأحرار، ومحطات نشاطه السياس المبكر والمتأخر. وجدنا الكتاب زاخراً بالمعلومات الموثقة، وأهمها المقابلات مع الأحياء مِن المساهمين في تلك الحوادث وتواريخ شهود عيان، وكتب المذكرات، والكتب الأدبية، وهي الأخرى ذات قيمة في البحث.
وعلى الرَّغم مِن أهمية الكتاب، ومثلما قلنا قيمة المعلومات التي حواها، لكننا وجدناه مضطرباً في ترتيب الفصول وتداخلها، فقد المؤلف أسهب في المقدمات، والشروحات الطويلة، والدخول في سرد يضيع على القارئ تسلسل المعلومات، وتفرقها بخصوص حزب الله في بقية الفصول، كذلك بالنسبة للعناوين الأُخر.