الدكتور المتوكل طه أمين عام اتحاد الأدباء والكتاب الفلسطينيين ووكيل وزارة الإعلام واحد من الأسماء الثقافية البارزة في ساحات الثقافة والسياسة العربية.. عاش المعاناة اليومية للمواطن الفلسطيني وتعرض للاعتقال في سجون الاحتلال فجسد معاناة الفلسطيني على شكل حروف يقول في هذا الحوار إنها مغموسة في الدم والسجون. عن تجربة النضال الفلسطيني في ميدان الأدب والثقافة وقصة القلم الذي يقف في وجه الدبابة الصهيونية كان هذا الحوار مع الدكتور المتوكل طه:
* برأيكم ما دور المثقف العربي في ما تتعرض له الأمة العربية من ظرف صعب نظرا لما يجري في فلسطين ولبنان والعراق؟
- أولا أخبرني متى لم يكن الوضع العربي منهارا ومدمى ومستلبا ومستباحا فحلقات الدهم والاستباحة والاستلاب موجودة في الحياة العربية منذ سنوات طويلة لكنها تشتد أحيانا وتفتر أحيانا أخرى وفي هذه الأيام نراها مشتدة وغليظة وخشنة وقاسية وشرسة وأكثر دموية.. الفتنة الدموية في العراق تمور وتودي بأكثر من مائة ضحية كل يوم ماذا فعل له العرب؟
فلسطين يكاد يتم تهويدها من قبل الاحتلال ماذا فعل لها العرب؟ ولبنان الذي أستبيح في العقود الماضية ماذا فعل له العرب؟ وكذا الجزائر التي مرت بعقود دموية.. حالات القمع حالات تبديد الثروات في العالم العربي.. كما أن الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج تطالب وتتوسل قاتلها أن تطبّع معه لكنه يرفض أليس ذلك استخذاء واستمراء للذل؟ أعتقد أن الحالة العربية في حالة انهيار وحالة كابية وخائبة وفي حالة هزيمة منذ عقود ماضية وللأسف الكثير من المثقفين انكسروا في هذه الريح الهوجاء ولم يستطيعوا أن يشكلوا حالة تصد هذه الغوائل وهناك الكثير من المثقفين جرحوا بتماهيهم مع نظامهم العربي الرسمي وأصبحوا أبواقا له أو أنهم صمتوا أو ذهبوا إلى الهامشي والوجودي والإيروتيك والذاتي ولم يذهبوا مباشرة إلى الجرح الذي يفور بدمه وبالتالي فإن على المثقف مسؤوليات لها أول لكنها لا تنتهي وحتى نسبر غور هذا الأمر جيدا فإننا نحتاج إلى استراتيجيات وحديث معمق ومسؤول يبدأ من قاعدة أن يستعيد المثقف دوره كقائد روحي وأن يستعيد دوره في أن يحرس الأحلام والتطلعات والثوابت والحقوق الكاملة والمبادئ العليا لا أن يكون بوقا أو مبررا أو لاهثا وراء النظام كما يجب أن تبدأ الاستراتيجية الثقافية من كون المثقف محكوم بموازين القوى أو الممكن وغير الممكن كالنظام السياسي الأمر الذي يتيح له مجالا وفضاء حرا وأفقا مفتوحا حتى يعمل داخل نسيج مجتمعه ليخلق كوابح كافية للحد من هرولة السياسي وهناك مهمات كثيرة على المثقف.
ثقافة المقاومة
* بعض المثقفين اليوم يسخرون من ثقافة المقاومة ويقولون إنها أصبحت من الماضي ما رأيكم في مثل هذا الطرح؟
- هذا الشيء يقوله الإسرائيليون المحتلون وبعض المأجورين للغرب وبعض المهزومين الخانعين حتى أن هؤلاء الساذجين لا يعلمون أن المقاومة ليست فقط أن تقاوم العدو أو أن تقاوم الاحتلال الذي يأخذ بيتك ويهتك عرضك ويذبح طفلك ويقطع شجرك ويصادر أحلامك ومستقبلك فأن تواجه الاحتلال بكل ما أوتيت من إمكانيات هذا مقاومة وأن تحارب الظلم والاستغلال مقاومة وأن تنتصر للجمال وتحارب البشاعة هو مقاومة وأن ترتقي بذائقة الناس مقاومة وأن تقف مع المرأة والطفل مقاومة وأن تخلق مساحة أكثر اتساعا للرأي الآخر مقاومة، إذن المقاومة لا تقتصر على مجابهة الاحتلال وبالتالي فإنها تعني أن تتجاوز الواقع نحو واقع أفضل وأكثر جمالا واكتمالا وبهاء وإنسانية وحرية وعذوبة وعليك أن تنحاز إلى كل القيم الجميلة المضيئة وأن تقف ضد النمل الأسود والأفكار السوداء المكسورة فهذه هي المقاومة ونحن نقاوم الاحتلال كأولوية وهذا لا يعني ألا أقاوم الاستغلال والقمع وألا أستخدم حقي في أن أدافع عن حريتي في القول وحرية المختلف معي في القول وبالتالي فإن الذين اعتبروا أن أدب المقاومة انتهى هم الذين انتهوا.
رباط ثقافي
* الأديب والمثقف الفلسطيني كيف يعيش في ظل أبشع احتلال عرفه التاريخ؟
- لقد تمرسنا تحت هذه الآلة التي تصب نارها الغولية علينا صباح مساء واستطعنا أن نخلق لنا جلودا تحصنا من أن يصل الاحتلال إلى قلوبنا ويدخل إلى أضلاعنا وخلقنا المناعة الكافية لكي نبقى عربا ومسلمين في فلسطين نرابط إلى يوم الدين وندافع عن كل ذرة تراب وعن كل ذرة هواء وعن حق الرضع والطيور في الحياة وعن الشجر الذي يسبّح باسم ربه وعن الزيتون وهو يجلس على عرشه الأبدي ومن حقنا أن نظل على أرضنا ومن حق الله تعالى علينا الذي اصطفانا لنعيش في أرض الرباط ومن حق أهلنا وشعبنا العربي في كل مكان من حقهم علينا أن نظل قادرين على المجابهة والصمود والرباط والبقاء لذا لا تخافوا علينا فالاحتلال أكثر هشاشة مما تتخيلون وأكثر رعبا وفزعا من حجر يلقيه طفل فلسطيني ألا تتذكرون صورة "فارس" الطفل الذي وقف بحجرة أمام المجنزرة فهذا المشهد يلخص حالة المواجهة الساخنة الطاعنة في فلسطين.
ثلاثة زلازل
* كيف انعكست المعاناة اليومية التي يعيشها الأديب الفلسطيني على الإبداع الفلسطيني؟
- الأديب الفلسطيني مغموس في الدم والسجن ومحمول على الجنازات والهتاف والأمل لكن لديه قدرة عالية على تحويل الألم إلى أمل غير أن أي مبدع فلسطيني لا يستطيع أن يكتب عن بستان إذا كانت نافورة الدم هي التي تقابله ولا يستطيع أن يتأمل لأن الطائرات والرصاص الطائش والمجنون لا يتيح له ذلك ولا يستطيع أن يجرّب لأن السجن والهراوات والغاز والكلاب تمنعه من ذلك وهذا يفسر لماذا الأديب الفلسطيني مغموس في كل هذا المشهد الصعب غير أن هناك عددا من الأحداث الكبرى التي أعتبرها زلازل وقعت وأحدثت تغيرا عميقا في الوعي الفلسطيني وفي الخطاب الثقافي والسياسي والزلازل الثلاثة هي "انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية" بمعنى انتصار القطرية على القومية، و"اتفاقية أوسلو ومدريد" وأتوقف عند مدريد وأوسلو لأقول إن أولى تأثيرات أوسلو علينا أنه نقل الاحتلال الصهيوني من صورة العدو الذي يجب نفيه وإلغاؤه وتبديده والقضاء عليه إلى صورة يمكن التعايش والتطبيع معها فحدث انقلاب عميق وكبير فكسرت هذه الزلازل وبالذات زلزال أوسلو من كان يتحكم في خطابنا الثقافي والسياسي كما كسرت المتحكم وبالتالي تجد معظم أدبائنا على الأقل بعد أوسلو أصيب بما أصيبت به جوانب عديدة في الثقافة العربية وذهب نحو الهامشي والإيروتيك والذاتي والسوداوي والفلسفي وتخلى إلى حد كبير عن المقاومة المباشرة وهذا لا يعني أن الثقافة برمتها والمنتج الثقافي غادرا المقاومة لا لم تغادر المقاومة تماما لكن بعضنا صمت فيما غادر الكثيرون منا.
أولويات مختلفة
* معاناة الأديب الفلسطيني داخل ما يسمى "بالخط الأخضر" والأراضي المحتلة عام 1948م هل يختلف عن معاناة الأديب الفلسطيني في الضفة والقطاع؟
- المعاناة واحدة لكن الأولويات تختلف فأولوية الفلسطيني الذي يعيش في فلسطين التي احتلت عام 1948م أو ما يسمى بـ"إسرائيل" تنصبّ في مقاومته للعنصرية ومطالبته بالمساواة مع الإسرائيلي لأنهم يعيشون في مجتمع فرض عليهم وهو مجتمع الاحتلال الإسرائيلي أما أولوية الفلسطيني الذي يعيش في الضفة والقطاع والقدس فإنها تنصبّ في مقاومة الاحتلال والتخلص منه بينما تنصبّ أولوية الفلسطيني الذي يعيش في دول اللجوء مثل سوريا لبنان الأردن مصر الخليج أمريكا وأوروبا في المطالبة بحق العودة إلى فلسطين لكن هناك خيوطا مشتركة بين كل الفصائل الفلسطينية وكل الأدب الفلسطيني فإذا كانت الرواية عن الحنين في المنفى فإنها تتحدث عن بطولات في الداخل الفلسطيني فيما تتحدث فلسطين عام 1948م عن أفق إنساني أكثر اتساعا يحارب الفصل العنصري لكنها جميعها منشغلة ومهمومة بالقضية الفلسطينية على اختلاف مستوياتها.
تأثير سلبي
* التيارات السياسية الفلسطينية هل انعكست على شكل تيارات أدبية ذات طابع سياسي؟
- إلى حدّ ما نعم لكنها أثرت تأثيرا سلبيا وليس إيجابيا حيث كان هناك في الفصائل الفلسطينية في مرحلة صمود الثورة والمد الوطني الفلسطيني تماه وانسجام بين الخطاب السياسي والخطاب الثقافي فكلاهما يطالب بالتحرر الكامل والعودة والتخلص من نير الاحتلال والمساواة والكرامة وما إلى ذلك غير أن هناك هامشا كان قد برز خلال تلك الفترة وهو هامش الالتزام وبالذات من قبل الفصائل اليسارية حيث كانت تلزم مبدعيها إلى حد كبير بالروح الفكرية اليسارية وبالذات الماركسية كما كانت تتشدد تجاه قبول الرأي الآخر أي أنها لم تكن ليبرالية بل كانت يسارية وبعد أوسلو رأينا أن الفصائل لم تكن كما كنا نتصور واكتشفنا أن معظمها فصائل من ورق كما اكتشفنا أن معظمها أسماء أكثر منها مضامين وأشخاص يتربعون على هرم الفصائل أكثر منهم قادة ثورة حقيقيين لأن الرجال الحقيقيين استشهدوا في المعارك والآن المثقف والسياسي في ورطة وفي أزمة فهناك أزمة بنيوية في بنية الفصائل السياسية وهناك أزمة خطاب سياسي وغياب خطاب اجتماعي داخل الفصائل الفلسطينية وأقصد الفصائل الوطنية واليسارية وليس الفصائل الإسلامية لذا فإن المثقف في ورطة لأنه بات في حالة ارتباك بعد انقلاب وانكسار المفاهيم المتحجرة.
إبداع ضروري
* ما خطة المثقف الفلسطيني لمواصلة الصمود وتجاوز حالة الحصار المفروض عليه؟
- نحن مثل جنود طارق بن زياد لا توجد لدينا سفن فنحن في عرض البحر والعدو أمامنا وبالتالي لا مجال أمامنا إلاّ الأمام وعلية فنحن مضطرون للمجابهة ولهذا السبب أقول إن الإبداع الفلسطيني كان إبداع الضرورة داخل فلسطين أكثر منه إبداع التأمّل.