الثلاثاء, 17 حزيران/يونيو 2014   18. شعبان 1435

  

Twitter

عبدالرقيب الوصابي

فنان استثنائي ، تشعر حينما تستمع إلى أغانيه أنك تحلق بعيدا في سماوات النقاء والضوء ، نذر حياته للفن والموسيقى ، تندلق من بين أنامله الألحان والجمل والموسيقية ، كعسل مصفى يجري في جنات عدن ، تلقى الفن وحب الموسيقى في أسرة تحب الفن وتدرك أثره في تهذيب النفوس ، وتزكية الأرواح ، عن والده أتقن فن السماع ، واستمتع بسماع صوته الشجي وهو يترنم بأعذب القصائد وأرق الألحان ، وظل صوت والده يرن في أذنيه إلى آخر أيامه ، وعن أخيه تلقى فن التعامل مع الأداة ، و تذويب الذات عبر أوتارها ، نشأ قريب الصلة بوالدته التي كانت تفيض رقة وحنانا وعذوبة ، حفظ القرآن في سن مبكرة ، فأضاااء الكون وابتهج الزمان ، وترتب على حفظه إقامة الاحتفالات ، في أكثر من حي ابتهاجا بالطفل الصغير الحافظ المجود للأحكام ومخارج الحروف .

لم يتمكن بعد ذلك من إتمام تعليمه الدراسي ، توقف عند الصف السابع ، بسبب شظف العيش ، وقلة الحياة ، إلتحق بمدرسة أخرى في كريتر ، كانت تستقبل الطلاب الأوائل ، وأحب الرياضة حبا عجيبا ، حتى لمع نجمه ، في سماء كرة القدم ، ومن ملاعبها وصولاتها اكتسب لقب المرشدي ، بيد أنه توقف بعد شهرة طويلة ، ومجد سامق ، بسبب آلام لازمت رئته ، أقبل بعدها على الإنشاد وكان يزاحم الآخرين بالمناكب والركب ، وحينئذ عرف بصوته الهامس ، وأدائه المغاير .

أول لقاء له في الرابطة العدنية ، إلتقى بالشاعر / محمد سعيد جرادة ، واستمتعت جرادة بأدائه ، وسلامة مخارجها ، وحسن أدائه ، وتعايشه مع المفردات ومراعاته لأحوال الكلام المغنى ، فأعطاه قصيدته ( هي وقفة ) ، إستبشر المرشدي بقصيدة الشاعر جرادة واعتبرها تشجيعا ، ثم عمل على تلحينها ، وإضفاء مقدمة موسيقية لها ، فكانت من أروع أغانيه ، وأجمل ألحانه ، بمعنى أن الفنان / محمد مرشد ناجي ، ولد مع القصيدة واقفا وظل واقفا حتى آخر أيامه ، وعرفته الجماهير بالتصدي للاستعمار البريطاني ، وحفظت عنه قصائد مقارعته للمستعمر .

تميز الفنان المرشدي بقدرته العجيبة على التعامل مع النصوص التراثية ، وإعادة تقسيماتها تقسيما لحنيا ، يضفي عليها إيقاع إلى إيقاعها الوزني / الخليلي ،

ثم عمل على تأدية كل الألوان اليمنية ، فغنى الأغنية التهامية ، والأغنية الصنعانية ، واأغنية اللحجية ، والأغنية اليافعية ، وربما تجاوز في غنائه وأدائه للألوان اليمانية المتعددة ، فنانو تلك المناطق ، بل ويحسب لها اشتغالاته على الأغنية الصنعانية ، وإخراجها من الضيق إلى الاتساع ، ولم يقتصر عند هذا الجهد الطيب ، بل لقد قام بتلحين مجموعة من القصائد لفنانين عرب أمثال الفنان محمد عبده في ( ضناني الشوق ) ، كما لحن للفنان اللبناني فهد بلان أغنية(يا بنت المكلا ) ، "أي أن تحليقه تجاوز الحدود اليمنية ، ووصلت شهرته مشارق الأرض ومغاربها ، غناءا وتلحينا .

أما عن جهده البحثي ، ودوره في تأصيل الأغنية اليمنية ، فقد كان له القدح المعلى ، إذ أنه ألف العديد من الكتب ، وأنجز الكثير من الأبحاث الرصينة ككتابه " أغنيات شعبية " و " الغناء اليمني ومشاهيره " و " صفحات من الذكريات " وغيرها من الأبحاث التي تميزت بالطرح الجريء والمغاير ، ومن أهم تلك الآراء أن الموشح الأندلسي ، يرجع في الأصل إلى الموشح اليمني القديم ، علاوة على جهوده في التعريف والتأصيل بالأغنية الصنعانية .

ويعتبر أبرز ما يميزه عن غيره من الفنانين - محليا وعربيا -، أداؤه المعتمد على ظاهرتي النبر والتنغيم ، مما أضفى على الأداء جمالا يكمن في مراعاة المعاني ، وتوسع الدلالة ، ناهيك عن كون المرشدي إستطاع بجلاء أن يشكل ثنائيا جديدا ما بين القصيدة والفنان / الملحن ، فلم يكن سر تميزه تفوقه في اختيار الشاعر الذي يراعي مقامات اشتغالاته ، وطبقات صوته ، وبهذا غنى للجميع ، وتألق مع كل القصائد ، ومع كل الألوان المتباينة .

الفنان والملحن والمؤرخ الموسيقي / محمد مرشد ناجي ، عاش معنا بهدوء ، لم يحتفي بالضجيج ، ولم يشعل الفرقات الإعلامية ، بل اكتفى بتقديم منجره الفني ، وتفانى في إخلاصه ، ورعم كل عناءاته وجهوده ، لم نتمكن من إنصافه ، ولم نحسن قراءة إبداعاته ، بل لم نساهم في انتشاله من وخزات الألم الذي أحاط بصمامات قلبه ، فهل بمقدورنا اليوم - زرافات ووحدانا - أن ننصف هذا الرجل ، وأن نعلي من قدر بحوثه وكتاباته ، وهل تتكرم مؤسسة التلفزيون والإذاعة ، بإطلاق سراح العديد من حلقاته التوثيقية لألوان الغناء اليمني ، حتى تكون مادة ثرية للأجيال القادمة ، أتمنى ذلك .

رحمك الله أيها المرشدي العملاق ، وأسكنك فسيح جناته ، وأبدلك جنات عدن ، بدلا عن محبوبتك عدن موئل فنك الأصيل.

 

أضف تعليق